يتوب من الذنب ثم يعود إليه
ما حكم من يتوب عن الذنب ويعود إليه مرة أخرى ويكرر هذا عدة مرات؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإنَّ الإقلاعَ عن المعصية، والندمَ على فِعلِها والعَزمَ على عَدمِ العودةِ إليها في المستقبَل شروطُ التوبة النصُوح والاستغفار الصادق. قال النووي رحمه الله: “قال العلماء: التوبةُ واجبةٌ من كلِّ ذنب: فإن كانت المعصية بين العبدِ وبين الله تعالى لا تتعلقُ بحقِّ آدميٍّ فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، والثاني: أن يندم على فعلها، والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدا. فإن فُقِد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدميٍّ فشروطُها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها: فإن كانت مالا أو نحوه ردَّه إليه، وإن كان حدَّ قذفٍ ونحوه مكَّنه منه أو طلب عفوَه، وإن كان غيبة استحله منها”. [رياض الصالحين للنووي ص 46-47].
فهذا الذي يتوب من الذنب ويعود إليه مرة أخرى ويكرر هذا عدة مرات له أحدُ حُكْمَيْن لا ثالث لهما: إما أن يتوب صادقاً؛ فيُقْلِع عن الذنب ويندم ويعزم أن لا يعود، ثم يضعف ويذنب نسياناً من غير إصرار، فيندم ويتوب مُقلِعاً نادِماً عازِماً على عَدَمِ العَوْد؛ فهذا يغفر الله عز وجل له برحمتِه لعلمِه بصدقِ توبتِه وسُرعةِ عودتِه من قريب. وإما أنْ يكون مُصِراًّ على الذنب ـ عياذاً بالله ـ فهذا يُخشَى عليه سوءُ الخاتمة.
وما أحسنَ قولَ الحسن بن الفضل في تفسيرِ قولِ الله عز وجل (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه قال: (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنَّ لهم رباًّ يغفر الذنب” [الجامع لأحكام القرآن 4/212]. قال القرطبي رحمه الله: “وهذا أخذَه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبدٌ ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال: أي رب أغفر لي ذنبي ـ فذكر مثله مرتين وفي آخره ـ اعمل ما شئت فقد غفرتُ لك) أخرجه مسلم… ودلت الآيةُ والحديثُ على عظيمِ فائدةِ الاعترافِ بالذنب والاستغفارِ منه قال صلى الله عليه وسلم (إنَّ العبدَ إذا اعترفَ بذنبِه ثم تاب إلى الله؛ تاب الله عليه) أخرجاه في الصحيحين، وقال: يستوجب العفو الفتى إذا اعترفْ بما جنى من الذنوب واقترفْ، وقال آخر:
أقْرِرْ بذنبِك ثم اطلبْ تجاوُزَه إنَّ الْجُحُودَ جُحودَ الذنبِ ذنبان!
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهبَ الله بكم وجاء بقوم يُذنِبُون ويستغفرون؛ فيغفر لهم)؛ وهذه فائدة اسم الله تعالى (الغفار) و(التواب)”. [لجامع لأحكام القرآن 4/212].
فطُوبَى للتائبين المستغفِرين الذين أثنى عليهم ربُّهم بأنهم (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). وقد قال المفسرون رحمهم الله في قوله تعالى: (فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) “أي: طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم، وكلُّ دعاءٍ فيه هذا المعنى أو لفظه فهو استغفارٌ … فالاستغفارُ عظيمٌ وثوابُه جَسِيم؛ حتى لقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَن قال: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه؛ غفر له وإن كان قد فرَّ من الزحف)، وروى مكحول عن أبي هريرة قال: ما رأيتُ أكثرَ استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقال مكحول: ما رأيتُ أكثرَ استغفاراً من أبي هريرة، وكان مكحولُ كثير الاستغفار”.[الجامع لأحكام القرآن 4/210]. و”الاستغفارُ المطلوبُ هو الذي يحلُّ عُقَدَ الإصرارِ ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان، فأما من قال بلسانه: أستغفر الله وقلبه مصر على معصيته؛ فاستغفارُه ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرتُه لاحقةٌ بالكبائر. وروي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارُنا يحتاج إلى استغفار! قلتُ: هذا يقولُه في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يُرَى فيه الإنسانُ مُكِباًًّ على الظلم حريصاً عليه لا يُقلِعُ والسبحة في يده زاعماً أنه يستغفر الله من ذنبه! وذلك استهزاء منه واستخفاف، وفي التنزيل (ولا تتخذوا آيات الله هزوا)”.[الجامع لأحكام القرآن 4/210-211].