هدم الكنائس في بلاد المسلمين
السلام عليكم ورحمة الله، أسأل عن حكم هدم الكنائس في بلدنا السودان خاصة بعد خروج النصارى إلى دولتهم وما عاد لهم حق مواطنة ولا عهد ولا ميثاق هذا حسب علمي القاصر، وإن كان الهدم جائزاً من يحق له الهدم أعني مباشرة الفعل هل لكل أحد أن يفعل ذلك ..؟ وجزاكم الله خيراً..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد.
فتنفيذ الأحكام سواء كان بهدم أو حرق أو إقامة حد أو ضرب عنق إنما هو منوط بالحاكم، وقد نقل الإمام القرطبي وغيره إجماع العلماء على أنه ليس لآحاد الرعية مباشرة ذلك، وما دامت هذه الكنائس قد انتفت الغاية من وجودها وذلك بذهاب أهلها فالواجب على الدولة استعمال تلك المباني فيما يعود على الناس بالنفع؛ بدلاً من أن تتخذ أوكاراً لإيقاع الضرر بالبلاد وأهلها، وأما حكم بناء الكنائس وترميميها فقد فصل في ذلك علماء الإسلام، وخلاصة ذلك ما ذكرته في جواب سابق حين قلت: بناء الكنائس في ديار الإسلام الأصل فيه الحظر؛ لأن في ذلك إعانةً على الباطل والكفر بالله تعالى، وقد قال سبحانه {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} قال السبكي رحمه الله تعالى: ويلزم من تحريم الكفر تحريمُ إنشاء المكان المتَّخَذ له، والكنيسة اليوم لا تُتَّخذُ إلا لذلك، وكانت محرَّمة معدودة من المحرَّمات في كل ملة، وإعادة الكنيسة القديمة كذلك؛ لأنه إنشاء بناء لها، وترميمها أيضاً كذلك؛ لأنه جزء من الحرام ولأنه إعانة على الحرام. وقال أيضاً: فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع وكذا ترميمها. وكذلك قال الفقهاء: لو وصَّى ببناء كنيسة فالوصية باطلة؛ لأن الكنيسة معصية وكذلك ترميمها، ولا فرق بين أن يكون الموصِي مسلماً أو كافراً؛ فبناؤها وإعادتها وترميمها معصية ـ مسلماً كان الفاعل لذلك أو كافراً ـ هذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم.
والمتأمِّل في كلام الفقهاء رحمهم الله يجدهم يفرِّقون في ذلك بين بلد فتحت صلحاً وأخرى فتحت عنوةً؛ فيبيحون إنشاءها في الأولى دون الثانية؛ يقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه (المغني 10/610): أقسام أمصار المسلمين ثلاثة:
أحدها: ما مصَّره المسلمون، كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط، فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعة ولا مجتمع لصلاتهم، ولا يجوز صلحهم على ذلك، بدليل ما رواه أحمد عن ابن عباس {أيُّما مصر مصَّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً، ولا يتخذوا فيه خنزيراً} وما وجد في هذه البلاد من البِيَعِ والكنائس مثل كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأُقرَّت على ما كانت عليه.
والقسم الثاني: ما فتحه المسلمون عنوة، فلا يجوز إحداث شيء من ذلك فيه، لأنها صارت ملكاً للمسلمين، وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان: أحدهما يجب هدمه وتَحرُم تَبْقِيَتُه، والثاني: يجوز، لأن حديث ابن عباس يقول {أيما مصر مصَّرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم} ولأن الصحابة فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئاً من الكنائس، ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبِيَع في البلاد التي فتحت عنوة. ومعلوم أنها ما أُحدِثَت، فيلزم أن تكون موجودة فأُبْقِيَت. وقد كتب عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ إلى عُمَّاله ألا يهدموا بيعةً ولا كنيسةً ولا بيتَ نار، ولأن الإجماع قد حصل على ذلك، فإنها موجودة في بلد المسلمين من غير نكير.
الثالث: ما فُتِحَ صُلحاً وهو نوعان، أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها، فلهم إحداث ما يحتاجون فيها، لأن الدار لهم، الثاني: أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا، فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم، من إحداث ذلك وعمارته، لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم، ويكون موضع الكنائس والبيع معنا، والأولى أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه، ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب عبد الرحمن بن غنم: ألا يحدثوا بيعة ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا قلاَّية.ا.هـ