السلام عليكم الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف، يا شيخ أريد سؤالك عن الوسواس في الطهارة ماذا أفعل معه، انا عندي متلازمة القولون العصبي وأخشى دايما خروج الريح وصرت موسوسة في الوضوء والغسل وأعيد وأكرر كثيراً لدرجة أني صرت أخاف من مواعيد الصلاة مع أني أحب الصلاة كثيرا؛ شور علي يا شيخ، وجزاك الله خيرا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى لك شفاء وعافية وكفارة وطهورا، أما بعد
فإن الوسوسة في شأن الطهارة ليست بالأمر الجديد، بل هو داء قديم حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت عنه في الحديث أنه قال {لا يبولن أحدكم في مستحمه فإن عامة الوسواس منه} رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وفي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن أحدكم إذا كان في الصلاة جاءه الشيطان فأبس به كما يأبس الرجل بدابته؛ فإذا سكن له أضرط بين أليتيه ليفتنه عن صلاته، فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً لا يشك فيه} وقوله (أبس به) أي ذلله وحقَّره وروَّعه
لكن هذا الداء قد استشرى في عصرنا وصار ملازماً لكثير من الناس؛ حيث تجد بعضهم موسوساً في الوضوء والغسل وطهارة ثيابه وفراشه؛ حتى إن بعضهم ليمكث في الحمام الساعات الطوال في الاستبراء من البول والاستنجاء من الغائط وغسل ما يظنه قد تنجس من ثيابه، ويتشكك في كل مكان يجلس فيه أو يمشي عليه، ويعيد الوضوء مرات ومرات، ويظن أن ذلك من الورع والتقى، ولربما يلجأ إلى بعض أهل العلم ليسألهم واحداً تلو الآخر، فلا يزداد بجوابهم إلا تعاسة وشقاء؛ حيث يحار في عباراتهم ويتشكك في علمهم، وقد يصادف بعض المتنطعين فلا يزيدونه إلا خبالاً، والشيطان يريد أن يصل إلى غاية مذكورة في السؤال وهي أن يبغض إليك الصلاة حتى تتركيها، وعلاج ذلك الداء يتمثل في الآتي:
أولاً: المحافظة على الأذكار والأدعية والصلوات والأوراد؛ فإن ذكر الله يرضي الرحمن ويطرد الشيطان، وذكر الله موجب لحصول عناية الله بك وغشيان الرحمة لك وحفوف الملائكة من حولك، وما زال الشيطان لذكر الله كارهاً {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} وإن الشيطان جاثم على صدر ابن آدم؛ فإذا غفل وسوس؛ فإذا ذكر الله خنس، فاحرصي ـ عافاك الله ـ على الاعتصام بحبل الله والإكثار من ذكره، يكفك شر كل ذي شر، وهو سبحانه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ثانياً: المشاركة في المجالس الطيبة من حلق العلم والذكر؛ فإن هذه المجالس المباركة مجالس نور وهدى ورحمة، والملائكة قريبة منها والشياطين نافرة عنها كارهة لها، وقد حثَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نرتع فيها ونلتمس الخير في أهلها (فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم) ولربما تجدين في أول أمرك صعوبة وعنتاً من أجل أن تحافظي عليها، لكنك ـ إن شاء الله ـ بعد حين ستعتادين الجلوس فيها، وستكون لك غذاء الروح الذي لا تستغنين عنه، فاستعيني بالله ولا تعجزي، واعلمي بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، فلا تستسلمي لعدوك، بل اصبري وجاهدي، ولك البشرى من ربك {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}
ثالثاً: متابعة العلاج النافع عند الطبيب الموثوق؛ فإن بعض أنواع الوسواس تحتاج إلى نوع من العلاج العضوي، فالزمي طبيباً حاذقاً فطناً ذا دين ـ وما أكثرهم والحمد لله ـ شاوريه في أمرك، ولا تُخْفِي عنه شيئاً؛ فما في المرض عيب ولا حرج، واحْكِي له ما يدور في نفسك وما يجول بخاطرك، وأطيعيه فيما يأمرك به، ولا تكوني كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً؛ فإن بعض الناس يتنقل بين الأطباء والمفتين، ولعله يحكي لبعضهم ما يخفيه عن آخرين، فيختلف العلاج ويحار المداوي ويعجز الطبيب فلا يزداد الموسوس إلا رهقاً وعنتاً؛ وذلك بما جنت يداه.
رابعاً: احرصي على الانهماك في الأعمال الجادة المختلفة التي تستنزف الطاقة وتستفرغ الجهد سواء في بيتك أو وظيفتك، ولا تستسلمي للخلوة والانزواء فتلك غاية الشيطان؛ حتى يتسنى له أن يلقي في نفسك ما يريد، كوني للناس مخالطة وعن همومك معرضة، وأقبلي على عملك الذي كلفت به، وقد أرشدنا إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرنا بأن نتمادى في الصلاة إذا وسوس لنا الشيطان بأن الوضوء قد انتقض، وأن يقول أحدنا (آمنت بالله وحده) إذا وسوس له الشيطان قائلاً: فمن خلق الله؟ وهكذا لا استسلام لعدو الله، بل جد وذكر وعمل وحالنا مع الشيطان كحال من قالوا لشياطين الإنس {وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون}
خامساً: اعلمي أن شريعتنا ـ والحمد لله ـ شريعة سمحة هينة سهلة، قائمة على اليسر في وأحكامها، متدرجة في تشريعاتها، قليلة تكليفاتها، بعيدة عن الإعنات والمشقة؛ رافعة للحرج عن الناس؛ ففي كتاب الله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} وصفة نبينا أنه {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة) رواه الإمام أحمد، ويوصي أصحابه وأمته بالتبشير والتيسير، فيقول (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) رواه الشيخان، ويتوعد صلى الله عليه وسلم المتشددين والمتزمتين والمعسّرين فيقول (ألا هلك المتنطعون قالها ثلاثاً) رواه مسلم، ولما أفتى بعض الصحابة فتوى خاطئة فيها تشديد وتعسير، وأدت إلى موت إنسان ما كان له أن يغتسل فأمروه بالاغتسال، قال عليه الصلاة والسلام وهو في قمة غضبه (قتلوه قتلهم الله؛ ألا سألوا إذا لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال) رواه أبو داود، ولم يقر صلى الله عليه وسلم أحداً على أن يشدد على نفسه بل كان نكيره سريعاً على أولئك المشددين، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم؟ قال (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه) رواه البخاري، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُهادَى بين ابنيه، فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يمشي، فقال (إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه) وأمره أن يركب. رواه البخاري.
وهكذا كان الصحابة الكرام متابعين لنبيهم صلى الله عليه وسلم في هذا التوجيه الكريم؛ فها هو عمرو بن العاص رضي الله عنه يرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية ذات السلاسل يقول: فاحتلمت في ليلة باردة، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[1] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً. رواه أبو داود
سادساً: عليك العناية بطلب العلم الشرعي سبيل أكيد للنجاة من الوسواس، فحين تطلبين العلم سترين كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ وكيف كان يصلي؟ وكيف كان يعبد ربه؟ وكيف كان يتعامل مع الناس، وستعلمين يقيناً أن هديه صلوات الله وسلامه عليه أبعد ما يكون عن التنطع والتكلف، بل دينه دين اليسر، وكان عليه السلام حريصاً على التيسير (فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)
سابعاً: عليك الإلحاح على الله تعالى بالدعاء ليعيذك من وساوس الشيطان؛ فإن الله تعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وبين أصابعه قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فإذا لجأ المسلم إلى ربه خاشعاً متذللاً مخبتاً متضرعاً، يسأله أن يقيه من نزغات الشيطان، بكل إخلاص وصدق، وافتقار إلى الله تعالى، وتحيَّن أوقات الإجابة وأحوالها التي بيّنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كالثلث الأخير من الليل، وحال الصيام، وحال خشوع القلب، وعند السجود، وقبل السلام، وفي الساعة الأخيرة من الجمعة، فإنه لحريّ أن يظفر بالإجابة، وعليه أن يعنى بالأدعية الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ولا يشغل نفسه بما ألفه الناس وكتبوه من أدعية محدثة فخير الدعاء ما كان في القرآن ثم ما ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى {رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} والاستعاذة الواردة في قوله سبحانه {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام لصلاة الليل (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من نفثه ونفخه وهمزه) وربنا سبحانه وتعالى تعهد الله بأن يحمي من التجأ إليه واستعاذ به من كيد الشيطان ومكره. وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن وسوراً نتلوها وأدعية واستعاذات نقرؤها في مناسبات مختلفة لنتحصن بها من الشياطين؛ فمن تحصن بها نجا، ورد الله كيد الشيطان في نحره؛ وأعظم ذلك قراءة سورة البقرة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم، فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يقرأ فيه سورة البقرة) رواه البخاري. وفي صحيح البخاري حديث أبي هريرة رضي الله عنه حينما أمسك الشيطان الذي كان يحاول السرقة من بيت الصدقة فعرض عليه الشيطان مقابل إطلاق سراحه أن يعلمه كلمات ينفعه الله بها، قال (إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أما إنه صدقك وهو كذوب)
أسأل الله تعالى أن يشفيك ويعافيك، اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف وأنت الشافي؛ لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما.
[1]