السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو من سيادتكم الموقرة شرح حديث: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة الى آخره، مع ذكر أقوال أهل العلم فيه، وشكرا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد
فهذا الحديث رواه جمع من الصحابة، وخرَّجه الأئمة العدول الحفاظ، كالإمام احمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان، وأبي يعلى الموصلي، وابن أبي عاصم، وابن بطة، والآجري، والدارمي، واللالكائي. كما صححه جمع من أهل العلم كالترمذي، والحاكم، والذهبي، والسيوطي، والشاطبي، وأيضًا للحديث طرق حسنة كثيرة، بمجموعها تصل إلى حد القول بصحته. ونصه (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وفي بعض الروايات (هي الجماعة).
وهذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ وتأكيد على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقاً؛ حيث أخبر فيه عليه الصلاة والسلام بأمر غيبي، وقد حصل كما أخبر؛ فافترقت الأمة بعد وفاته إلى فرق كثيرة.
والمقصود بهذا الحديث تلك الفرق التي خالفت الصحابة في أصول الدين وأمور الاعتقاد؛ كالرافضة والخوارج والقدرية والجبرية، وليس مقصوداً به الاختلافات التي حصلت في الفروع الفقهية في أبواب الحلال والحرام كالتي بين المذاهب المتبوعة، وليس مقصوداً به كذلك جماعات العمل الإسلامي المعاصر التي تتفق في أصول الدين لكنها تختلف في وسائل الدعوة إلى الله، وكيفية العمل لنصرة هذا الدين اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. ويختلفون كذلك في فقه الواقع مما له مساغ اجتهاد ومساحة تعدد.
هذا وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تحديد الفرقة الناجية التي ورد ذكرها في هذا الحديث، وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتاب (الاعتصام) خمسة أقوال:
أولها: أنهم السواد الأعظم: قال: فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة، وعلماؤها، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم.
ثانيها: أنهم أئمة العلماء المجتهدون: والمقصود بهم العلماء الأعلام من أئمة الهدى المتبعين للكتاب والسنة، قال الشاطبي: فمن خرج على علماء الأمة مات ميتة جاهلية.
ثالثها: أنهم الصحابة على الخصوص؛ قال الشاطبي: فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى، في قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنا عليه وأصحابي) فكأنه راجع إلى ما قالوه، وما سنوه، واجتهدوا فيه حجة على الإطلاق.
رابعها: أنهم جماعة أهل الإسلام: إذا أجمعوا على أمر وجب على بقية أهل الملل اتباعهم، قال الشاطبي: وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضاً ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر.
وهذا القول الرابع لم يسنده الشاطبي رحمه الله تعالى لقائل؛ وهو يتضمن إشكالاً من حيث كون أهل الإسلام أنفسهم ينقسمون إلى فرق؛ وإنما المقصود تحديد الفرقة الناجية؛ ولذلك فالأولى إسقاطه
خامسها: أنها جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير وجب على بقية الأمة لزومه. قال الشاطبي في بيانه: وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم
قال المباركفوري رحمه الله تعالى في كتاب (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي) نقلاً عن الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي قوله: قد علم أصحاب المقالات أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه، من أبواب الحلال والحرام، وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد، وفي تقدير الخير والشر، وفي شروط النبوة والرسالة، وفي موالاة الصحابة، وما جرى مجرى هذه الأبواب، لأن المختلفين فيها قد كفَّر بعضهم بعضاً، بخلاف النوع الأول، فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تقسيم للمخالف فيه، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الخلاف.ا.هـــ