أنا إمام مسجد، ثبتني الله وإياكم على طريق الحق القويم، هل المقصود في معنى الحديث {إذا صلى أحدكم فليوجز فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة} هو أن نقرأ في صلاتنا مثل ما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم مابين الستين إلى المائة أو أن نخف من ذلك؟ أفيدوني أفادكم الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تامة خفيفة؛ كما قال الصحابي أنس بن مالك {مَا صَلَّيْت وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً، وَلَا أَتَمَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم}، وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَفَّ النَّاسِ فِي تَمَامٍ} وكان هديه المضطرد عليه الصلاة والسلام أن يراعي أحوال الناس من خلفه فلا يطيل طولاً يشق عليهم، ولا يجعل التقصير كذلك دينه وديدنه، بل كان أمره عدلاً وسطاً، وفي الحديث {إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ إطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ}
فعلى الإمام أن يخفف تخفيفاً غير مخل، وإليك ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) واصفاً قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته:
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية وصلاها بسورة (ق) وصلاها بـ (الروم) وصلاها بـ (إذا الشمس كورت) وصلاها بـ (إذا زلزلت) في الركعتين كليهما وصلاها بـ (المعوذتين) وكان في السفر وصلاها فافتتح بـ (سورة المؤمنين) حتى إذا بلغ ذكر موسى وهارون في الركعة الأولى أخذته سعلة فركع، وكان يصليها يوم الجمعة بـ (ألم تنزيل السجدة) وسورة (هل أتى على الإنسان) كاملتين ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين وقراءة السجدة وحدها في الركعتين، وهو خلاف السنة، وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فُضِّل بسجدة فجهل عظيم، ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة السجدة لأجل هذا الظن، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد وخلق آدم ودخول الجنة والنار، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة؛ فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم؛ تذكيرا للأمة بحوادث هذا اليوم، كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة (ق) و (واقتربت) و (سبح) و (الغاشية)
وأما الظهر فكان يطيل قراءتها أحيانا حتى قال أبو سعيد رضي الله عنه (كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلي الركعة الأولى مما يطيلها) رواه مسلم، وكان يقرأ فيها تارة بقدر (ألم تنزيل) وتارة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) وتارة بـ (السماء ذات البروج) و (السماء والطارق) وأما العصر فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت وبقدرها إذا قصرت، وأما المغرب فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم فإنه صلاها مرة بـ (الأعراف) فرقها في الركعتين ومرة بـ (الطور) ومرة بـ (المرسلات)
قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بـ (المص) وأنه قرأ فيها بـ (الصافات) وأنه قرأ فيها بـ (حم الدخان) وأنه قرأ فيها بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وأنه قرأ فيها بـ (التين والزيتون) وأنه قرأ فيها بـ (المعوذتين) وأنه قرأ فيها بـ (المرسلات) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل قال: وهى كلها آثار صحاح مشهورة انتهى
وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائما فهو فعل مروان بن الحكم ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت وقال: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل؟! وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين قال: قلت: وما طولى الطوليين؟ قال: (الأعراف) وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن
وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة (الأعراف) فرَّقها في الركعتين فالمحافظة فيها على الآية القصيرة والسورة من قصار المفصل خلاف السنة وهو فعل مروان بن الحكم
وأما العشاء الآخرة فقرأ فيها صلى الله عليه وسلم بـ (التين والزيتون) ووقَّت لمعاذ فيها بـ (الشمس وضحاها) و (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) ونحوها وأنكر عليه قراءته فيها بـ (البقرة) بعدما صلى معه ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف فأعادها لهم بعدما مضى من الليل ما شاء الله وقرأ بهم بـ (البقرة) ولهذا قال له [أفتان أنت يا معاذ] فتعلق النقارون بهذه الكلمة ولم يلتفتوا إلى ما قبلها ولا ما بعدها
وأما الجمعة فكان يقرأ فيها بسورتي (الجمعة) و (المنافقين) كاملتين و (سورة سبح) و (الغاشية) وأما الاقتصار على قراءة أواخر السورتين من {يا أيها الذين آمنوا} إلى آخرها فلم يفعله قط وهو مخالف لهديه الذي كان يحافظ عليه
وأما قراءته في الأعياد فتارة كان يقرأ سورتي (ق) و (اقتربت) كاملتين وتارة سورتي (سبح) و (الغاشية) وهذا هو الهدي الذي استمر صلى الله عليه وسلم عليه إلى أن لقي الله عز وجل لم ينسخه شئ
ولهذا أخذ به خلفاؤه الراشدون من بعده فقرأ أبو بكر رضي الله عنه في الفجر بسورة (البقرة) حتى سلم منها قريبا من طلوع الشمس فقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كادت الشمس تطلع!! فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين
وكان عمر رضي الله عنه يقرأ فيها بـ (يوسف) و (النحل) و بـ (هود) و(بني إسرائيل) ونحوها من السور ولو كان تطويله صلى الله عليه وسلم منسوخاً لم يَخْفَ على خلفائه الراشدين ويطلع عليه النقارون
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر {ق والقرآن المجيد} وكانت صلاته بعد تخفيفاً فالمراد بقوله بعد أي: بعد الفجر أي: إنه كان يطيل قراءة الفجر أكثر من غيرها وصلاته بعدها تخفيفاً ويدل على ذلك قول أم الفضل وقد سمعت ابن عباس يقرأ و (المرسلات عرفا) فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب فهذا في آخر الأمر
وأيضاً فإن قوله: وكانت صلاته بعد غاية قد حذف ما هي مضافة إليه فلا يجوز إضمار ما لا يدل عليه السياق وترك إضمار ما يقتضيه السياق، والسياق إنما يقتضي أن صلاته بعد الفجر كانت تخفيفاً ولا يقتضي أن صلاته كلها بعد ذلك اليوم كانت تخفيفاً، هذا ما لا يدل عليه اللفظ ولو كان هو المراد لم يخف على خلفائه الراشدين فيتمسكون بالمنسوخ ويدعون الناسخ
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (أيكم أم الناس فليخفف) وقول أنس رضي الله عنه {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة في تمام} فالتخفيف أمر نسبي يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه لا إلى شهوة المأمومين فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه وقد علم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة فهي خفيفة بالنسبة إلى أطول منها وهديه الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازغ فيه المتنازعون ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بـ (الصافات) فالقرءاة بـ (الصافات) من التخفيف الذي كان يأمر به والله أعلم