في سورة الكهف قال الخضر عليه السلام: ((فأردت أن أعيبها))، وفي الثانية قال: ((فأردنا أن يبدلهما))، وفي الثالثة قال: ((فأراد ربك أن يبلغا))، فلماذا قال في الأولى “فأردت”، وفي الثانية “فأردنا”، وفي الثالثة “فأراد ربك”؟ وجزاك الله خيراً.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقد اعتنى المفسرون رحمهم الله تعالى ببيان أوجه الخلاف بين هذه التعابير الثلاثة؛ فقالوا: فقال العلامة ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير 16/14: إن قال قائل: كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وقال في خرق السفينة ((فأردت أن أعيبها)) فأضاف العيب إلى نفسه؟ قيل له: إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله تعالى لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك الذي أعلمه الله تعالى أنه يريده. وقيل: لما كان ذلك خيراً كله أضافه إلى الله تعالى، وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب؛ لأنها لفظة عيب، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله ((وإذا مرضت فهو يشفين)) فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقص ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما قال تعالى ((بيدك الخير)) واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء خبير. وقال في الغلام: }فأردنا{ فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى.
قال: }فأردت أن أعيبها{ ولم يقل: فعبتها، ليدل على أن فعله وقع عن قصد وتأمل؛ وضميرا الجماعة في قوله }فخشينا{ وقوله }فأردنا{ عائدان إلى المتكلم الواحد بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل. وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأن الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع فقال (فخشينا.. فأردنا)، ولم يقل مثله عند ما قال }فأردت أن أعيبها{ لأن سبب الإعابة إدراكه لمن له علم بحال تلك الأصقاع.
وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سره لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين.
وقال ابن المنير رحمه الله تعالى في حاشيته على الكشاف2/399: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا، ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله ((فأردت أن أعيبها)) وأسنده في الثانية على ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله ((فأردنا أن يبدلهما ربهما)) وقوله ((فخشينا أن يرهقهما)) ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى؛ لأن المراد ثَمَّ عيب فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: أمرنا بكذا أو دبرنا كذا، وإنما يعنون أمَرَ الملك ودبَّر ويدل على ذلك قوله في الثالثة: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما)) فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة فسبحان اللطيف الخبير.
وقال النسفي رحمه الله تعالى في تفسيره3/23: وإنما ذكر أولاً }فأردت{ لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله، وثالثاً }فأراد ربك{ لأنه إنعام محض وغير مقدور للبشر، وثانياً }فأردنا{ لأنه إفساد من حيث الفعل وإنعام من حيث التبديل.
وقال الرازي رحمه الله تعالى في مفاتيح الغيب 16/162: بقي في الآية سؤال، وهو أنه قال ((فأردت أن أعيبها)) وقال ((فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة)) وقال ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما)) كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي كلها في قصة واحدة وفعل واحد؟ والجواب: أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه فقال: ((فأردت أن أعيبها)) ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى؛ لأن المتكفل بمصالح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
وقال الألوسي رحمه الله تعالى: قيل: ولعل إسناد الإرادة أولاً إلى ضمير المتكلم وحده أنه الفاعل المباشر للتعييب، وثانياً إلى ضمير المتكلم ومعه غيره لأن إهلاك الغلام بمباشرته وفعله وتبديل غيره موقوف عليه وهو بمحض فعل الله تعالى وقدرته، فضمير (نا) مشترك بين الله تعالى والخضر عليه السلام[1]، وثالثاً إلى الله وحده لأنه لا مدخل له عليه السلام في بلوغ الغلامين. وقيل في وجه تغاير الأسلوب: إن الأول شر فلا يليق إسناده إليه سبحانه وإن كان هو الفاعل جل وعلا، والثالث خير فأفرد إسناده إلى الله عز وجل، والثاني ممتزج خيره وهو تبديله بخير منه وشر وهو القبل فأسند إلى الله تعالى وإلى نفسه نظراً لهما. وقيل إنه أسند الإرادة في الأولين إلى نفسه لكنه تفنن في التعبير فعبر عنها بضمير المتكلم مع الغير بعد ما عبر بضمير المتكلم الواحد لأن مرتبة الانضمام مؤخرة عن مرتبة الانفراد مع أن فيه تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية بخلاف التعييب، وأسند فعل الإبدال إلى الله تعالى إشارة إلى استقلاله سبحانه بالفعل وأن الحاصل للعبد مجرد مقارنة إرادة الفعل دون تأثير فيه
قال العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى: والأظهر أن الخضر نبي عليه السلام وأنه كان موحى إليه بما أوحي؛ لقوله )وما فعلته عن أمري( وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصت في هذه السورة، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض، وأن يحمل ما يعزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم، فكونوا على حذر ممن يقول: أخبرني الخضر.
[1] قال الألوسي رحمه الله: وأنا لا أقول باشتراك هذا الضمير بين الله تعالى والخضر عليه السلام؛ لا لأن فيه ترك الأدب بل لأن الظاهر أنه كضمير (خشينا) والظاهر في ذاك عدم الاشتراك لأنه محوج لارتكاب المجاز على أن النكتة التي ذكروها في اختيار التشريك في ضمير (أردنا) لا تظهر في اختياره في ضمير (فخشينا) لأنه لم يتضمن الكلام الأول فعلين على نحو ما تضمنهما الكلام الثاني فتدبر.