السلام عليكم فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف، لديَّ استفسار هام عن قصة الآيات الشيطانية التي تطرق لها المفكر سلمان رشدي في كتابه آيات شيطانية حيث قال:
إن بعض آيات القرآن أنزلت للموافقة على أكثر ثلاثة أرباب مشهورة ومحببة كانت توجد في مكة ذلك الوقت؛ لتكون القادة على الأرباب، وهي ما يقول عنه المفسرون أن الشيطان ألقاه في أمنية محمد عند قراءته سورة النجم ((أرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهم لترجى)) هناك من فسروا الآيات على أنها كانت مناورة تكتيكية من محمد لمراضاة أهل مكة، لكنه اكتشف بالنهاية أنها تضر باستراتيجيته المستغلة لفكرة وحدانية الله، فنسخ هذه الآيات بالآية: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول وَلَا نَبِيّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أُمْنِيَّته فَيَنْسَخ اللَّه مَا يُلْقِي الشَّيْطَان ثُمَّ يُحْكِم اللَّه آيَاته وَاللَّه عَلِيم حَكِيم)) وبعضهم قال أن الشيطان دخل على الخط بينما كان جبريل يلقن محمد صلى الله عليه وسلم الآية. وآخر قال أن تلك الآيات لم تتنزل عن طريق جبريل وإنما كان الشيطان هو الذي وسوس بتلك الآيات ولم يعلم بذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الوقت!! وبعض ذهب لـ أنه ظل الرسول عليه الصلاة والسلام يرددها قبل الوحي، ورددها بعد الوحي في هذه الحادثة، وقال إنها آية شيطانية وأنها ليست آية ولكنها تلبية لقريش، ظلت قريش عشرات السنين ترددها ورددها محمد أيضاً في سورة النجم، وكانت في السنة الثامنة قبل الهجرة، وظل المسلمون يرددون عبارة الغرانيق العلى في سجودهم حتى السنة الخامسة بعد الهجرة، أي أنهم ظلوا يصلون بها من حوالي 12- 13 سنة، حتى قويت شوكة محمد وحتى عندما تقرر أن الله هو الإله الوحيد بين آلهة العرب!!
أريد أن اعرف ما هي صحة هذا؟ إذا كان هناك نسبة من الصحة في هذه الرواية أصلاً فما هي تلك النسبة؟ كل ما أرجوه أن تذكر الرواية الحقيقية لما حدث بارك الله فيك ووفقك لما هو فيه خير للناس.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد.
فقبل الإجابة على ما طرحت من أسئلة أرجو التنبيه على أمور:
أولها: أنه ما ينبغي للمسلم أن يَعْمَدَ إلى قراءة الكتب التي حَكَمَ عليها أهل العلم الثِّقات بأنها حاويةٌ تُرَّهاتٍ وأباطيل، لا خوفاً من تلك الكتب، وإنما خوفاً على ذلك المسلم من أن تقع في قلبه شبهة تفسد عليه دنياه وآخرته، وقد قرَّر علماؤنا أن القلوب ضعيفة والشُّبَهَ خطَّافة، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في يد عمر رضي الله عنه صحيفة من التوراة وقال له {أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي} وذلك في أول الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام {من سمع بالدجال فلينأ عنه – أي يبتعد -؛ فوالذي نفسي بيده إن الرجل ليأتيه يحسب نفسه مؤمناً فيتبعه لكثرة ما يبعث من الشبهات}
ثانيها: هذه الكتب يتفرغ لقراءتها وتفنيد باطلها ثلةٌ من أهل العلم ممن رسخت أقدامهم وقوي يقينهم؛ ولذلك لما رسخ الإسلام في القلوب وتعلَّم الناس الفرائض والأحكام أذن صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يقرأ في كتب يهود لما أصاب زاملتين من كتبهم يوم خيبر، وما زال أهل العلم يتصدَّون لمناظرة المبطلين من الكفار والمشركين والمبتدعة ويدفع الله بهم شراً عظيما، أما عامة الناس فما ينبغي لهم التعرض لمثل ذلك حذراً عليهم من الضلال؛ وما ينبغي لمسلم أن يحمل نفسه من البلاء ما لا تطيق.
ثالثاً: أراك تصف ذلك الأفاك (بالمفكر) وما رأيت مسلماً قط أنعم عليه بتلك الصفة، بل الاتفاق حاصل على أنه كذاب أشر، ليس في كتابه ذاك أثارة من علم أو فن أو أدب، بل هي مجموعة من التخرصات والأكاذيب مدعومة بجملة من الشتائم الرخيصة التي تدل على فساد ذوق وقلة حياء عياذاً بالله من الخذلان، ولو كان مفكراً لتصدى لمناقشة الأمور كلِّها بتجرد العلماء ودأب المخلصين، لا أن ينزوي كالفأر المذعور، ويعيش حياةً الموت خير منها. وقد تعلَّمنا من كتاب ربنا ألا نفخِّم أهل الباطل؛ فترى ربنا في القرآن يشنع على المشركين ويضع من قيمتهم فيقول ((تبت يدا أبي لهب)) ولا يسميه باسمه!! ويقول عن عقبة بن أبي معيط ((ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا)) ويقول عن الوليد بن المغيرة ((ذرني ومن خلقت وحيدا)) ويقول عن طواغيت البشر ((إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)) ويقول ((وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون))
رابعاً: ليس فيما طرحه هذا الأفاك جديد، بل هو مُقتاتٌ على موائد من سبقه، ولربما أثبتت الأيام في قابلها أنه ما كتب شيئاً، وإنما كُتب له؛ يدلك على ذلك أن هذه القصة ما زال المستشرقون والمبشِّرون يطبلون لها ويزمِّرون وينفخون فيها ويزيدون من أجل أن يثبتوا أنه قد دخل في القرآن ما ليس من كلام الله!! وهيهات هيهات فما ضر شمسَ الضحى في الأفق ساطعة ألا يرى نورها من ليس ذا بصر؟
ومهما يكن من أمر فقد اعتنى أهل العلم – جزاهم الله خيراً – بتبديد ظلمات تلك الشبهات أمام أنوار الوحي، وخلاصة ما ذكروه:
1ـ أن هذه القصة باطلة نقلاً؛ حيث طعن فيها كثيرون من المحدِّثين والمحققين الجامعين بين الرواية والدراية؛ كابن خزيمة والبيهقي والقاضي عياض بن موسى اليحصبي والقاضي أبي بكر بن العربي المالكي والحافظ عماد الدين ابن كثير الدمشقي، ومن ذلك ما قاله القاضي عياض في كتابه (الشفا): إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب؛ المتلقِّفون من الصحف كل صحيح وسقيم، ومن حُكيت عنه هذه المقالة من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية..الخ
2ـ الاضطراب الفاحش واضح في سياق القصة برواياتها المختلفة؛ فمرة تُروى أنه كان صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ومرة أنه خارج الصلاة، وقائل يقول: حدث بها نفسه؛ وآخر يقول: بل ألقاها الشيطان على لسانه، وقائل يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قالها وهو ناعس، وآخر يقول: أعلمهم الشيطان أن النبي قالها!! ومن قائل يقول: إن الشيطان انتهز سكتة من سكتات النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها حاكياً صوت النبي صلى الله عليه وسلم!!
3- هذه القصة لم يخرجها أحد من أصحاب الكتب المعتمدة؛ فلا تجد لها ذكراً في الصحيحين ولا موطأ مالك ولا مسند أحمد، ولا سنن الدارمي ولا السنن الأربعة، بل الثابت في البخاري من رواية ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن}
4- لم يعرف في لغة العرب وصف الآلهة على سبيل المدح بالغرانيق؛ وما أُثِر ذلك في نظمهم ولا خُطَبهم، والذي تعرفه اللغة أن الغرنوق والغرنيق اسم لطائر مائي أسود أو أبيض، ومن معانيه الشاب الأبيض الجميل، وقد يطلق على غير ذلك، ولا شيء من تلك المعاني يلائم معنى الإلهية أو الأصنام حتى يطلق في فصيح الكلام الذي يُعرَض على أمراء الفصاحة والبيان
5- القصة مصادمة للقرآن في قوله تعالى ((إن عبادي ليس عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين)) وقوله تعالى ((إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)) وقوله تعالى ((قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين)) ومحمد صلى الله عليه وسلم هو سيد عباد الله المخلصين المؤمنين المتوكلين؛ فأنى أن يكون للشيطان عليه سبيل؟!!
6- نقل القاضي عياض رحمه الله تعالى إجماع الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يجري لفظ الكفر على قلبه أو لسانه لا عمداً ولا سهوا، أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقيه الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله لا عمداً ولا سهواً ما لم ينزل عليه؛ قال تعالى ((ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين))
7- مما يدل على كذب القصة أن الآيات التي أعقبت تلك الآيات التي زعمها المفترون هي قوله تعالى ((إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى)) فأيُّ مناسبةٍ بين الثناء على الآلهة المدَّعاة في الآيات التي اختلقوها وبين هذه الآيات التي فيها تشديد النكير على عابديها؟ وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون وهم أهل اللَّسَن والفصاحة؟
8- وأما قول الكذاب بأنها كانت مناورة من النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه من ذلك، فإنه مردود بداهة بأنه عليه الصلاة والسلام من يومه الأول في الدعوة جابه المشركين بذم آلهتهم والدعوة إلى عبادة الإله الواحد جل جلاله؛ فكيف يتأتى له ذلك، وكيف يقبل المشركون أن يذمَّ آلهتهم بالليل والنهار ثم يفرحون حين يشبهها بالغرنوق الذي هو طائر مائي كما تقدم؟ ((سبحانك هذا بهتان عظيم))
9- وأما قوله بأن المسلمين طفقوا يرددونها في سجودهم حتى السنة الخامسة من الهجرة؛ فتلك فرية ما سبقه إليها أحد!! ولو كان الكذاب مسلماً لعلم أن السجود لا يُقرأ فيه القرآن أصلاً، فقد نهينا أن نقرأ القرآن راكعين وساجدين، لكنه لعظيم جهله وكفره لا يفرِّق بين الركن الذي يقرأ فيه القرآن وغيره.
10- سجود المشركين غير مستغرب؛ فإن القرآن قد أسرهم بفصاحته وبهتهم ببلاغته؛ وقد تكرر منهم ما يدل على أن القرآن قد أخذ بمجامع قلوبهم؛ كقول الوليد بن المغيرة: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر!! وكذلك عتبة بن ربيعة لما تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت إلى أن بلغ قوله تعالى ((فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)) فألقى الله الرعب في قلبه، حتى وضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ناشدتك الله والرحم أن تكف!! فما الذي يستغرب من سجودهم والسورة تقرع أسماعهم وتزلزل أفئدتهم، والذي يتلوها هو النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي ما كان أحد أحسن صوتاً ولا تلاوة منه؟!
وأخيراً أيها السائل أقول: قد كتب علماؤنا المعاصرون في تفنيد تلك الشبهة ودحضها كتابات كثيرة، ومن ذلك ما رقمه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في رسالة سماها (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) وكذلك اعتنى بالرد عليها الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسير سورة النجم في الظلال وكذلك الشيخ العلامة محمد أبو شهبة في (السيرة النبوية) وغيرهم من أهل العلم، فارجع إلى تلك المصادر تجد فيها ما يشفي العليل ويروي الغليل، والله الهادي إلى سواء السبيل.